تعد الكعبة المشرفة أقدس بقعة على وجه الأرض للمسلمين أجمعين، فهي قبلة المسلمين ومحط أنظارهم ورمز وحدتهم وإيمانهم. تقع الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة، ولها تاريخ عريق يمتد عبر آلاف السنين، شهدت خلالها العديد من عمليات البناء وإعادة البناء. وقال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96- 97].
بداية بناء الكعبة
يعتقد أن أول من بنى الكعبة هو نبي الله آدم عليه السلام، بناء على أوامر من الله تعالى. فقد قال ابن عباس -رضي الله عنه: “فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ الْبَيْتَ، وَصَلَّى فِيهِ، وَطَافَ بِهِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، حَتَّى بَعَثَ اللهُ الطُّوفَانَ” وقيل إن إبراهيم عليه السلام-رفع القواعد التي أسسها سيدنا آدم عليه السلام
بناء الكعبة على يد نبي الله إبراهيم عليه السلام
أمر الله تعالى نبي الله إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة مع ابنه إسماعيل عليه السلام. ويقال أن إبراهيم وجد أثرا للبيت العتيق بناه آدم عليه السلام، فقام برفع أساساته وإعادة بنائه. وقد ساعد إسماعيل عليه السلام والده في حمل الأحجار وبناء الكعبة. تذكر بعض المصادر الإسلامية أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام بأن يري إبراهيم مكان الكعبة، فجرت زمزم عنده، وبدأ البناء.
إعادة بناء الكعبة عبر التاريخ
شهدت الكعبة المشرفة العديد من عمليات إعادة البناء على مر العصور، وذلك بسبب عوامل الطقس والحروب والكوارث الطبيعية. فيما يلي سرد لأهم عمليات إعادة بناء الكعبة:
- بناء جرهم: بعد الطوفان العظيم الذي ضرب مكة المكرمة، اختفت معالم الكعبة التي بناها آدم عليه السلام. قامت قبيلة جرهم العربية التي سكنت مكة بعد ذلك بالبحث عن مكان الكعبة، حتى وجدوه بفضل دلالة الطيور التي تحوم حول المكان. أعادت جرهم بناء الكعبة باستخدام الأحجار التي وجدوها بالقرب من الموقع.
- بناء قريش: قبيل الإسلام بـ 50 عامًا، تعرضت الكعبة لفيضانات وأمطار غزيرة أدت إلى تشقق جدرانها. اتفقت قبائل قريش على إعادة بناء الكعبة، ولكن نشب خلاف حول من يتولى شرف وضع الحجر الأسود في مكانه. اتفقوا على تحكيم رجل اشتهر بالعدل والحكمة، فحكَم بأن يضع الكعبة من يأتيه أولًا من باب المسجد. فكان الذي جاء أولاً هو عبد الله بن الزبير بن قصي، فوضعت قريش الحجر الأسود بيده وأعادت بناء الكعبة. وقد تميز هذا البناء بوجود الحجر الأسود في الركن الشرقي للكعبة، ورفع أساسات الكعبة وزيادة ارتفاعها.
إعادة بناء الكعبة بعد الإسلام
تعرضت الكعبة بعد الإسلام لبعض الأحداث التي أدت إلى إعادة بنائها:
- بناء عبد الله بن الزبير: بعد حال مشاركات الجمل عام 683 ميلادي، تعرضت الكعبة لقصف المنجنيق الذي استخدمه جيش يزيد بن معاوية. انهارت بعض أجزاء من الكعبة، وأعيد بناؤها من قبل عبد الله بن الزبير الذي تولى حكم مكة لفترة وجيزة. بنى ابن الزبير الكعبة على أساسات قريش، لكنه أضاف إليها سقفا من الخشب وجعل لها بابا واحدا.
- بناء الحجاج بن يوسف الثقفي: في عام 700 ميلادي، ضربت مكة سيول عارمة أدت إلى انهيار أجزاء كبيرة من الكعبة التي بناها عبد الله بن الزبير. أمر الحجاج بن يوسف الثقفي، والي الأمويين على الحجاز، بإعادة بناء الكعبة على نفس أساسات قريش وابن الزبير. استخدم الحجاج في البناء الرخام بدلاً من الحجارة العادية، وقام بتقوية الأساسات لمنع تأثرها بالسيول المستقبلية. كما أنه أزال السقف الخشبي الذي أضافه ابن الزبير، وأعاد بناء السقف بالرخام أيضًا.
- بناء السلطان مراد الرابع: في عام 1630 ميلادي، ضرب زلزال مدمر مكة المكرمة، وأدى إلى تصدع وانهيار أجزاء كبيرة من جدران الكعبة التي بناها الحجاج. أرسل السلطان العثماني مراد الرابع حملة عسكرية إلى الحجاز لإعادة الأمن والاستقرار، وكذلك لإعادة بناء الكعبة. استخدم العثمانيون في البناء حجارة صلبة وقوية جُلبت خصيصًا من إسطنبول، وأعادوا بناء الجدران المتضررة مع الحفاظ على نفس ارتفاع الكعبة. كما قاموا بتجديد كسوة الكعبة وترميم بابها.
آخر بناء للكعبة
آخر عملية إعادة بناء للكعبة تمت في عهد الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود عام 1996 ميلادي. تعرضت الكعبة في ذلك العام لأمطار غزيرة تسببت في انهيارات جزئية في السطح و الجبهات الشرقية والغربية. حرصت حكومة المملكة العربية السعودية على إعادة بناء الكعبة باستخدام أحدث التقنيات والآلات، مع الحفاظ على الطراز المعماري الأصلي للكعبة. وقد شارك في عملية البناء أكثر من 2000 فني ومهندس من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
مراحل بناء الكعبة في عهد الملك فهد
تميز بناء الكعبة في عهد الملك فهد بالدقة والاهتمام بأدق التفاصيل، مع الحرص على اتباع الأساليب التقليدية في البناء. وشملت مراحل البناء ما يلي:
- تفكيك الأحجار القديمة: تم تفكيك الأحجار القديمة للكعبة بعناية فائقة، مع ترقيم كل حجر لضمان إعادة تركيبه في مكانه الصحيح. استخدمت أحدث المعدات والأدوات لضمان عدم إلحاق الضرر بالحجارة التاريخية.
- إعادة بناء الأساسات: على الرغم من صمود الأساسات التي بناها الحجاج لقرون عديدة، إلا أن المهندسين قرروا إعادة بنائها باستخدام الخرسانة المسلحة، لضمان قدرتها على تحمل وزن الكعبة لسنوات طويلة قادمة، وكذلك لمقاومة أي عوامل طبيعية مستقبلية.
- تركيب الأحجار: بعد الانتهاء من بناء الأساسات، تم تركيب الأحجار الجديدة للكعبة بنفس الطريقة التي كانت عليها في البناء القديم. استخدم البناءون مادة لاصقة قوية مصنوعة خصيصًا لهذا الغرض لربط الأحجار ببعضها البعض مع ضمان متانة البناء.
- تركيب الحجر الأسود: حظي الحجر الأسود باهتمام بالغ خلال عملية البناء. تم تنظيفه من الأوساخ والغبار المتراكم عليه عبر السنين، وأعيد تركيبه في مكانه الأصلي في الركن الشرقي للكعبة.
- كسوة الكعبة: بعد الانتهاء من أعمال البناء، تمت كسوة الكعبة بالكسوة الجديدة، وهي عبارة عن قطعة قماش من الحرير الأسود مطرزة بآيات قرآنية من الذهب والفضة. تُصنع الكسوة سنويًا في مصنع خاص بمكة المكرمة، وتُهدى من قبل خادم الحرمين الشريفين.
أبعاد الكعبة و خصائصها المعمارية
تتربّع الكعبة المشرفة، أقدس موقع في الإسلام، شامخة وعظيمة في قلب المسجد الحرام بمكة المكرمة، بالمملكة العربية السعودية. وهي قبلة المسلمين في الصلاة ومحط أنظارهم، لتكون منارة إيمان ووحدة. إلى جانب أهميتها الروحانية، تُعد الكعبة أيضًا تحفة معمارية رائعة، إذ تفتخر بتاريخ عريق وتصميم هندسي معقد.
أبعاد الكعبة المشرفة
تعكس أبعاد الكعبة المشرفة التوازن والتناسق، وذلك انسجامًا مع مبادئ العمارة الإسلامية. يبلغ ارتفاعها المهيب 15 مترا، ويبلغ طول قاعدة الضلع الذي يضم الباب 12 مترا وكذلك الضلع المقابل له. أما الضلعين الآخرين، فالأول يضم الميزاب والآخر يقابله، ويبلغ طول كل منهما 10 أمتار.
تطور ارتفاع الكعبة
شهد ارتفاع الكعبة عدة تعديلات على مر التاريخ، تعكس مساهمات عصور وحكام مختلفين. في زمن سيدنا إسماعيل عليه السلام، كان ارتفاع الكعبة تسعة أذرع، وكانت خالية من السقف. وخلال العصر الجاهلي، قامت قبيلة قريش بأعمال تجديد، حيث رفعوا البناء بمقدار تسعة أذرع، ليصبح ارتفاعه الإجمالي 18 ذراعًا. كما رفعوا الباب عن الأرض، فلم يُصعد إليها إلا بواسطة سلم أو درج.
زيادات لاحقة في الارتفاع
حدثت تحسينات لاحقة على ارتفاع الكعبة في عهد عبد الله بن الزبير، حيث أضاف تسعة أذرع أخرى، ليصبح الارتفاع الإجمالي 27 ذراعا، وهو الارتفاع الذي عليه إلى يومنا هذا.
الأركان الشريفة للكعبة
تكتسب أركان الكعبة الأربعة أهمية كبيرة في التقاليد الإسلامية. فهذه الأركان، التي تسمى بالركن الأسود والركن الشامي والركن اليماني والركن العراقي، تشكل نقاط مرجعية للحجاج والمعتمرين أثناء طوافهم حول الكعبة.
الميزاب
يزين الجدار الشمالي للكعبة الميزاب، وهو عبارة عن مجرى مصنوع من الذهب الخالص. ولا يقتصر دور هذا الميزاب على الغرض العملي المتمثل في تصريف مياه الأمطار من سقف الكعبة، بل يحمل أيضًا قيمة رمزية، حيث يُعتقد أنه يمثل بركات الله تعالى.
الدخول والصيانة
يوجد للكعبة باب واحد يفتح ثلاث مرات في السنة للتنظيف والصيانة. يغسل الداخل بعناية باستخدام ماء زمزم، وذلك لضمان قدسيته ونقائه.
السطح والصعود
يدعم سطح الكعبة بثلاثة أعمدة خشبية من أجود أنواع الخشب، مزينة بالذهب. وفي إحدى الزوايا، يوفر سلم ضيق الوصول إلى السطح، حيث يصعد إليه الأفراد مرة في السنة لاستبدال كسوة الكعبة.
بعض الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية للحفاظ على الكعبة
- تطوير البنية التحتية: تعمل المملكة باستمرار على تطوير البنية التحتية المحيطة بالكعبة، وذلك لتسهيل حركة المعتمرين والزوار والحفاظ على أمنهم وسلامتهم. يشمل ذلك توسعة المطاف والمسعى، وتحسين خدمات النقل والمواصلات، وتوفير كافة المرافق الضرورية لراحة الزائرين.
- تدريب الكوادر البشرية: تولي المملكة العربية السعودية اهتمامًا كبيرًا بتدريب الكوادر البشرية المؤهلة للقيام بأعمال العناية والترميم للكعبة والمسجد الحرام. ويتم ذلك من خلال برامج تدريبية خاصة تتضمن جوانب تاريخية وعلمية وفنية.
- تعزيز الوعي بأهمية الكعبة: تسعى المملكة إلى تعزيز الوعي بأهمية الكعبة الدينية والتاريخية بين المسلمين في جميع أنحاء العالم. وذلك من خلال برامج إعلامية وثقافية تسلط الضوء على تاريخ الكعبة ورمزيتها الدينية.
تعد قصة بناء الكعبة عبر العصور رحلة عبر الزمن، تروي لنا حكايات الإيمان والوحدة والرعاية الإلهية. إن الكعبة المشرفة ليست مجرد مبنى حجري، بل هي رمز مقدس يجمع المسلمين على اختلاف أعراقهم وألوانهم ولغاتهم. وستبقى الكعبة بإذن الله تعالى، قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، شامخة على مر العصور، شاهدة على عظمة الإسلام وتوحيد الله تعالى.