في قلب رحلة الحج، يقف جبل عرفات شامخًا بين شعائر الإيمان، محتضنًا ملايين القلوب التي تهفو إلى مغفرةٍ ورحمة. على بُعد نحو عشرين كيلومترًا من مكة المكرّمة، يرتفع الجبل بما يقارب سبعين مترًا عن سطح الأرض، ويُحيط به سهل فسيح يحمل الاسم ذاته — عرفات — ليشهد كل عام أعظم مشهدٍ من مشاهد التوحيد في اليوم التاسع من ذي الحجة، يوم الوقوف بعرفة، الركن الأعظم للحج.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: لماذا سمي جبل عرفات بهذا الاسم؟
سرّ التسمية: بين التعارف والاعتراف
اختلف العلماء في سبب تسمية الجبل بـ عرفات، وتنوّعت الروايات التي نُقلت عن السلف والعلماء، وكلّها تجتمع في معانٍ سامية تعبّر عن اللقاء والمعرفة والمغفرة:
- التعارف بين الناس:
قيل إن الناس كانوا يتعارفون عند هذا الموضع منذ القدم، حيث يجتمع الحجاج من شتى بقاع الأرض، فيتعرف بعضهم إلى بعض، ومن هنا جاءت التسمية “عرفات”. - تعليم جبريل عليه السلام لسيدنا إبراهيم عليه السلام المناسك:
ورد في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام كان يعلم سيدنا إبراهيم عليه السلام مناسك الحج، وعندما وصلا إلى هذا الموضع قال له: “أَعرفت؟” فرد سيدنا إبراهيم عليه السلام: “عرفت”، فسمي الجبل “عرفات”. - اعتراف آدم وحواء:
تروي بعض المصادر أن سيدنا آدم عليه السلام التقى بحواء على هذا الجبل بعد أن أنزلهم الله إلى الأرض، فعرف كل منهما الآخر، ومن ثم سمي الجبل “عرفات”.
ورغم اختلاف هذه الروايات، إلا أن المعنى الذي يجمعها هو المعرفة واللقاء والمغفرة — معانٍ تليق بمقام المكان الذي يجتمع فيه الناس على كلمة التوحيد.
مكانة جبل عرفات في الحج
الوقوف على جبل عرفات هو الركن الأعظم من الحج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“الحج عرفة”، أي أن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.
في يوم عرفة، يقف الحجاج على جبل عرفات وعلى السهل المحيط به من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة حتى غروبها، حيث يرفع الحجاج أكفّهم إلى السماء، يتضرّعون، ويستغفرون، ويهتفون بنداء التوحيد الخالد: لبيك اللهم لبيك. وتعد هذه اللحظات من أعظم المواقف الإيمانية التي يجتمع فيها ملايين المسلمين.
العمود فوق جبل عرفات
يتوّج الجبل عمود أبيض بارز يعرف بـ “العمود فوق جبل عرفات”، يُعدّ علامة مميّزة لقمة الجبل ومقصِدًا للحجاج، غير أن السنة النبوية تؤكد أن الوقوف لا يقتصر على القمة، بل يشمل كامل أرض عرفات، فكلّها موضع وقوفٍ ودعاء.
جبل عرفات بدون حجاج
يعود الجبل إلى سكينته الأولى، بعد رحيل الحجاج، خاليًا إلا من العمود الأبيض وبعض الآثار البسيطة. تبدو صور عرفات بلا حجاج كأنها مشهد من التأمل الصامت، يذكّر بأن قدسية المكان لا تزول بانصراف الناس، بل تبقى ما بقيت شعائر الله تُعظَّم في القلوب.
الدروس المستفادة من الوقوف بعرفة
الوقوف على جبل عرفات ليس مجرد شعيرة، بل يحمل رسائل عظيمة، منها:
- المساواة بين البشر، يقف الجميع بلباسٍ واحد، لا فرق بين غنيٍّ وفقير، ولا بين عربيٍّ وأعجمي.
- التواضع والخشوع أمام الله إذ يقف العبد بين يدي خالقه، متجردًا من مظاهر الدنيا.
- فرصة للتوبة ومغفرة الذنوب، فقد ورد أن الله يباهي بعباده الواقفين بعرفة أمام ملائكته.
يبقى جبل عرفات علامة بارزة في شعائر الحج، ومكانا له دلالات دينية وتاريخية عميقة. ومعلَمًا خالدًا تتجدد عنده معاني الطهر والتوبة، فهو موطن اللقاء والتعارف، وميدان الاعتراف بين العبد وربه.
وفي كل عام، حين تتلألأ خيام الحجيج على سفوحه، تتردد في الأفق عبارة خالدة:
هنا تبدأ المغفرة… وهنا تكتمل الرحلة.
إن رؤية الحجاج على جبل عرفات مشهد إيماني يخلد في ذاكرة المسلمين، بينما تبقى صور جبل عرفات بدون حجاج تذكيرا بأن قدسية المكان لا تزول بانصراف الناس، بل هي باقية إلى قيام الساعة.





